يعد (منير
مراد) أهم من قدم فن المحاكاة أو (التقليد) على أسس واضحة خاصة (تقليد الفنانين)
والمطربين منهم على وجه الدقة، فهو لم يقم بمحاكاة نبرة الصوت أو حتى حركات الفنان
فقط،بل إنه حين يحاكي كان يجعل المتلقي يعيش في (جو كامل) خاص بمن يقوم بتقليده، فعلى
سبيل المثال :في الاستعراض الشهير (هنا القاهرة) من فيلم (أنا وحبيبي) كان يقدم
لكل مطرب بمقدمة لحنها هو بأسلوب ألحان هذا المطرب، خاصة وأنهم كانوا جميعا ملحنين
عدا أخته (ليلى مراد) هذا إلى جانب محاكاته للحركات وأسلوب المشي وملامح الوجه، حتى
يهيئ المتلقي نفسيا لاستقبال (حالة محاكاة فنان) لا محاكاة سطحية لا دلالة لها.
(منير
مراد) في محاكاته أيضا لم يقم باستدعاء أحد الفنانين المتوفين في (اسكتش) ما مثلا
ليقدم المحاكاة من أجل المحاكاة كما يفعل كل من يحاول أن يقدم هذا اللون من الفنون
كأن يمسك أحدهم الميكروفون في حفل ما ليقوم (بتقليد الفنانين) حتى يجعل (محمد
هنيدي) يقوم باستدعاء (يوسف وهبي)، وهذا أمر آخر يختلف فيه (منير مراد) عن غيره، فهو
لا يقدم المحاكاة لانتزاع ضحكة أو ابتسامة، إنه يقدم فنا مهما، بل لا يقل أهمية عن
التمثيل ذاته، بدليل أن فيلميه الشهيرين (أنا وحبيبي – 1953) و(نهارك سعيد – 1955)
لم يخل أي منهما من الاستعراض والغناء والتقليد على حد سواء، بل إن كلا منهما كان
يدور حول شاب موهوب في كافة أشكال الفنون التمثيلية، وصف (بالتياترجي) نسبة إلى
(التياترو) الذي كان يقدم فيه كل ألوان الفنون المرئية المذكورة .
وهناك مستوى آخر يجدر بنا الحديث عنه هو(خلق
الشخصية عن طريق المحاكاة)، أنظر إلى مشهد اتصاله بوالدته (ميمي شكيب) بعد أن طرده
أبوه (سراج منير) في فيلم (نهارك سعيد)، لقد
قالت الأم للأب إن عمته هي التي تتحدث فتناول الأب السماعة منها فجأة، وهنا شاهدنا
شخصية لا وجود لها في الفيلم من خلال طبقة صوت وملامح (منير مراد) الذي صار فجأة
(عمة الأب على الهاتف)، إذن فالمحاكاة لدى هذا الفنان ليست تلك الوجبة الخفيفة أو
مجموعة التوابل التي توضع في الفيلم ليكتسب طعما كوميديا، إنها فن قائم بذاته.
كما
أن (لمنير مراد) مستوى خفيا من المحاكاة، وهو مستوى محاكاته لفناني هوليوود
الضالعين في فن الاستعراض، وهم على وجه الحصر(داني كاي)، (دين مارتن)، (جين
كيللي)، (فريد أستير)، وهم جميعا فنانون شاملون فكل منهم يمثل ويغني ويرقص وكانوا
في تلك الفترة وهي من أواخر الأربعينيات وحتى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين
أشهر نجوم السينما الأمريكية.
ولكن
ما أعنيه من محاكاة (منير مراد) لأي منهم هو استخدامه مجموعة مهمة من عناصر الفن
السابع، برع هو فيها بشدة، وأعني الغناء والرقص وتقديم الاستعراضات، إضافة إلى ما
كان يقوم به من محاكاة وتأليف سينمائي وتلحين وعزف، لكن محاولته استجلاب هذا
الأسلوب (العصري جدا في الخمسينيات) أتى بنتيجة عكسية تماما مما أدى ببعض النقاد
إلى القول بفشل فيلميه المشار إليهما، فقد كانت الناس معتادة آنذاك على الأفلام
ذات النكهة التراجيدية، كما أن أشهر ممثلي السينما من المطربين وقتها كانا (فريد
الأطرش) و(عبد الحليم حافظ) اللذين حاولا تقديم شيء من الكوميديا في بعض أفلامهما،
لكنهما – مع شديد التقدير – لا يمكن مقارنة أي منهما بخفة روح (منير مراد).
أضف
إلى ذلك أن المطرب في الأفلام الاستعراضية في تلك الفترة كان يظهر شبه ثابت داخل
الاستعراضات بينما تتحرك الراقصات من حوله، وكان أقصى ما يفعله هو أن يميل بضع
سنتيمترات إلى اليمين أو اليسار برأسه، بينما كان (منير) يملأ الشاشة بالحركة والجري والرقص و(التنطيط)، حتى
إنك – كمشاهد – لا تبحث عن فرقة أو راقصة فهو يقدم لك كل شيء ...كل شيء.
ولعل
كون (منير مراد) سابقا لعصره هو أحد أهم أسباب (فشله السينمائي)، أضف إلى ذلك أن
كل شيء في بلادنا له سقف، وعلى الرغم من أننا نلوك كل يوم مقولة (الفنون جنون) إلا
أن هذا الجنون محدود للغاية لدينا، ومن يحاول أن يكون متجاوزا يحترق (أو يحرق)،
والنماذج على هذا ليست قليلة.
تخيلوا
معي لو أن (منير مراد) كان قد وصل في بداية الخمسينيات إلى هوليوود، أنا شخصيا أرى
أن كل الفنانين السابق ذكرهم كانوا سيسعون للاستفادة من مواهبه المتعددة التي كان
يفوقهم بها أضعافا مضاعفة، خاصة وأنه لم تكن تنقصه لغة أو ثقافة.
(قرّب قرّب.. خش اتفرج ) - سينما "منير مراد")