يرى الشاعر ما لا يراه غيره، وعليه فإن القصيدة تحمل
داخلها هذا (الما وراء) أو تحاول أن تكشفه، إنها تنير عالما مخبوءا وراء العالم
الذي نعيشه جميعا، ومعنا الشعراء بالطبع.
و بهذا المنطق فالقصيدة هي الكون، وهي كذلك الفعل
الإنساني العظيم الذي يحتوي الكون، وهي أعظم من أن تكون مفردات متراصة بعناية أو
صورا جميلة متشابكة أو جملا قوية المعنى والدلالة، إنها الكائن الأسمى الذي يقف شامخا ناشرا أجنحته الملائكية القوية التي
منها كل ما سبق ذكره.
أما عن الديوان فإنني أرجو ألا أكون مبالغا لو قلت إنه
يقتل بهجة القصيدة، فهو مجموعة من القصائد ذات الروح الواحدة، ولكن لمجرد جمعها
وطباعتها بين دفتي كتاب قتلت بهجة القصيدة الواحدة منه.
فالشاعر حين يكتب قصيدته فإنه يعتبرها وليدته الجديدة،
يهتم بها بشدة، فيقوم بعمل كل الترتيبات اللازمة لها، من إعادة صياغة الجمل إن لزم
الأمر إلى "التبييض"، إلى كتابتها أكثر من مرة، ثم إلى حملها داخل ورقة
في جيب القميص القريب جدا من القلب أو في حقيبة اليد التي تحمل كل ما هو مهم
للشاعر، إلى إلقائها على الأصدقاء وفي الندوات، وتظل لها بهجتها وطزاجتها وطعمها
الخاص وبهاؤها الشديد حتى تولد لها أخت ..أي قصيدة جديدة.
ولكن ما إن يقوم الشاعر بجمع القصائد في ديوان حتى تنتهي
هذه البهجة، فأعظم ما سيقوم به هو إهداء الديوان إلى الأصدقاء والصحفيين وإقامة
حفلات التوقيع والندوات، ولكن الجمهور سواء في ندوة أو حفل أو في صحبة، لا تحب أن
تسمع القصيدة أو القصائد من الشعراء حين يلقونها من ديوان، إنهم يحبونها طازجة من
ورقة مطوية تخرج من الجيب أو من الحقيبة، كأنها رغيف خبز ساخن يطعم به الشعراء
أصدقاءه ومستمعيه.
أما أعظم ما سيقدم للديوان، هو أن يناقش مرة أو مرات سواء
بأسلوب انطباعي أو نقدي علمي جاف، تطبق عليه النظريات الجاهزة والمصطلحات.
إن الديوان على أهميته كسطر إضافي في السيرة الشخصية
للشاعر، أضر كثيرا ببهجة القصيدة وجمال تداولها بين الناس على مقهى أو في بيت
ثقافة أو حتى في بيت أحد الأصدقاء.
أدعو الشعراء إلى النظر في هذه المسألة؛ حتى نعود لنسمع
القصائد في الندوات المجمعة، لا أن يفرح هذا أو أن تسعد تلك بكتاب في خمسمئة أو
ألف نسخة وندوة في مركز ثقافي وأخرى في مكتبة، يقوم فيها الناقد الفلاني بحشد أكبر
عدد ممكن من المصطلحات المكررة في كل دراسة عن كل ديوان تقريبا.
ليست هذه دعوة لإلغاء إصدار الدواوين بالطبع، أو إلى
إلغاء النقد مثلا، فهما أمران في منتهى الأهمية من أجل الحراك الثقافي، لكنني أدعو
لاستعادة طزاجة القصيدة وبهائها غير المحدود من خلال القراءة والاستماع والتفاعل
المباشر، تلك الطزاجة التي لا يوفرها الديوان الذي صار وكأنه يطل علينا من شرفة
عالية لا تليق بروعة القصيدة وبهائها.
تعليقات بلوجر
تعليقات فيس بوك