مقدمة
إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند
قراءة هذا العنوان هو التساؤل عما إذا كانت عملية (تأريخ السيرة) إبداعا جديدا
يضاف إلى الإبداعات العربية في ظل وجود (التراجم والسير) منذ عصور بعيدة في ثقافتنا
العربية ؟
وللإجابة عن هذا التساؤل علينا
أولا أن نعرض لمعنى (التراجم والسير) و الفارق بين هذين المصطلحين وبين هذا
المصطلح الجديد :(تأريخ السيرة).
الكثير من الباحثين عرّفوا (التراجم
والسير) على أنها (صنف أدبي يتناول
التعريف بحياة شخص أو أكثر، هذا التعريف
ربما يطول أو يقصر، ويتعمق أو يبدو سطحيا حسب عصر و ثقافة كاتب الترجمة و قدرته
على رسم صورة عن المترجم له).
وقد قام الباحثون في أكثر من
موضع بتقسيم الترجمة إلى نوعين أساسيين هما:
الذاتي والغيري، أما عن الترجمة الذاتية، فهي ببساطة ما يكتبه الكاتب عن نفسه، مثل (الأيام)
للدكتور(طه حسين)، أما الترجمة الغيرية فهي ما يكتبه الكاتب عن غيره من الميلاد
إلى الوفاة، مثل (عبقريات العقاد).
و الصنف الأخير هو ما يمكن أن
يتماس مع فكرتنا الجديدة، وهناك اختلافات سنعرض لها بالتأكيد ولكن دعونا نتساءل
مبدئيا: ما الفرق بين (التراجم والسير) ؟
الحقيقة أنه ليس هناك فارق لغوي
يذكر، لكن هناك فارقا في المصطلح
واستخدامه، فقد جرت عادة المؤرخين أن
يسموا الترجمة بهذا الاسم حين لا يطول نَفَس الكاتب فيها، فإذا ما اتسعت الترجمة سميت سيرة!!
تاريخ موجز للتراجم والسير في
الأدب العربي
ويذكر أن أول استخدام لمفردة (السيرة)
كانت في سيرة (النبي محمد صلى الله عليه وسلم)، وقد سمي كتّابها بأصحاب السير حيث إنه من المعروف أن (السيرة
النبوية) هي أوسع ما في هذه النوعية من التراجم، كما أنها أقدمها ظهورا، فقد كانت المحور الذي تدور حوله حياة (النبي
محمد صلى الله عليه وسلم) وحوادث الإسلام الرئيسة ونشأته واتساعه وتطوره
وانتشاره بالغزوات والفتوح، ثم نشأت من
بعدها كتابة التراجم لرواة الأحاديث
النبوية، وقد كانت وجيزة لم يكن القصد
منها إلا بيان قيمة المحدث ومكانته من الإسناد ويعد كتاب ( تاريخ البخاري) من أقدم
الكتب التي ظهرت في هذا المجال.
وفي أواخر القرن الثالث الهجري
ألّف (أحمد بن يوسف الداية) كتابا تحت عنوان: (سيرة ابن طولون)، ولعل هذه هي أول مرة ينتقل فيها استعمال لفظة (السيرة)
من (النبي محمد صلى الله عليه وسلم) إلى غيره من الرجال.
كما لا يمكن تجاهل الملحمة
العربية الكبرى (سيرة بني هلال)، وهي
(السيرة) التي تناولت أشخاصا وأجيالا وقبائل ودولا، واختلط فيها الواقعي بالأسطوري، وهي بهذا تعد متفردة عند تطبيق المصطلح العربي
القديم (السيرة) فقد خرجت عن دائرة التوثيق لحياة شخص إلى توثيق ملحمي أوسع من
مدلول المصطلح المذكور.
وهنا نجد أحد الفوارق الواضحة فإبداعنا
الجديد (تأريخ السيرة) عملية تفصيلية توثيقية شديدة التعقيد والأمر فيها ليس لمجرد
تبيان قيمة المترجم عنه أو بالمعنى الحديث (المؤرخ لسيرته) وإنما (شخصنة) هذا
الإنسان الذي نتعمد أن يكون مبدعا أو ثائرا ولهذا تفصيل سنورده فيما بعد.
الفارق بين (تأريخ السيرة) وبين
(التراجم والسير)؟
كما أن كل التراجم الغيرية كانت
عن شخصيات دينية معروفة بدءا (بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم) ومرورا بصحابته، هذا بالإضافة إلى الشخصيات السياسية مثل بعض الحكام
العرب على مر التاريخ، والأسباب في هذا
معروفة، فمن الخوف من بطش الحاكم إذا كتب
المؤرخ عن أحد المتمردين أو الثوار.
أما عن تراجم الشعراء العرب
القدامى – وهم أشهر صنوف المترجم لهم بعد (النبي محمد صلى الله عليه وسلم) وأتباعه
و الحكام والسيرة الهلالية - فلم تتعد ما
ذكرناه عن فن الترجمة العربي القديم، من
(تبيان قيمة المترجم عنه) ليس إلا، ولم
يكن هناك توسّع يذكر حين الحديث عن حياة الشاعر التفصيلية ومكيف كان يعيش وماذا
كان يعمل، والمؤثرات التي جعلت منه مبدعا،
ومنهجه في كل من الحياة والإبداع، وغيرها من الأمور التي يركز عليها فننا الجديد
(تأريخ السيرة).
الكتابات الحديثة حول سير
المبدعين
أما في أوربا فإن الأمر مختلف
قليلا، حيث نجد أن تأريخ السير أصبح مهنة
بعد أن صار لونا من ألوان الأدب المعترف بها، فصار هناك (مؤرخو سير) يرصدون حيوات
المبدعين، خاصة من أبناء وطنهم، سواء أكانوا أحياء أم أمواتا، وهو ما يعد جزءا من مفهومهم الحضاري للتاريخ
الذي يعني ببساطة أنه يجب أن يعرف كل مواطن حقيقة تاريخ بلاده وتاريخ رموزه خاصة
من المبدعين الذين لا يلقون الاهتمام الذي يلقاه الحكام ولاعبو الكرة والممثلون!!
أما في كتاباتنا العربية
الحديثة فنكاد لا نجد ذكرا لهذه الجملة (تأريخ السيرة)، وإن وجدت كتابات شاردة هنا وهناك، إلا أن الأمر لا يتعدى تأليف كتاب أو بضع مقالات
عن شخصية أو عدة شخصيات ثم ينتهي الأمر، كما
أن الكتابة لا تكون منصبّة على البطل وحياته، بل يصر الكاتب على ضم موضوع ما إلى جانب سيرة
البطل، يكون هو محور الكتابة الحقيقي، فعلى سبيل المثال عندما نقرأ عناوين من نوعية
(عبد الناصر وعصره) أو (مختارات من أشعار صلاح جاهين)، أو(صلاح أبو سيف والفن السابع) مثلا، سوف نعرف مسبقا أن الحديث عن الشخصية في هذا
الكتاب أو ذاك لن يتجاوز بضع صفحات، ثم
يتم الانتقال إلى الأعمال المرفقة أو إلى الحديث عن الموضوع المثير الذي يحمله
العنوان .
ولكن ما الاختلافات بين مشروع
(تأريخ السيرة) الذي نطرحه هنا وبين هذه الكتابات؟
أولا – معظم مؤلفي ومعدي هذه
الكتب يقدمون شخصيات شهيرة بالفعل، وليس
هناك من جهد كبير لإلقاء الضوء عليها (ليلى مراد، عبد الوهاب، صلاح جاهين، جيفارا، أحمد شوقي، جمال عبد الناصر.....الخ)، بينما نعمد في مشروعنا إلى تقديم شخصيات من
المفترض أنها معروفة، ولكن الحقيقة أنها
ليست كذلك بالنسبة لقطاعات من المثقفين أنفسهم.
ثانيا – لا يتبع معظم أصحاب هذه
النوعية من الكتب المنهج العلمي في كتباتهم، فلا مراجع و لا مصادر ولا إشارات ولا إحالات إلا
فيما ندر، وهو الأمر الذي يفقد البحث أولى
قيمه وهي الجدية إلى جانب فقدانه للعلمية، وبالتالي لا يستطيع القارئ الرجوع إلى مصدر
بعينه للتأكد من صحة معلومة بعينها، أما
في مشروعنا فالمنهج العلمي والتوثيق هما أولى الأولويات في الكتابة.
ثالثا – يعتمد معظم كتاب هذه
المؤلفات على الشائع والمتداول، وعلى
الحكي والقص دون بذل أدنى جهد يذكر لمحاولة التحقق من صدق كل هذه المرويات، أما في مشروعنا فإننا نؤكد على وجوب التحقق من
مصداقية المصدر والقيام بتحليل المعلومة وعمل المقارنات للوصول إلى أدق معلومة
ممكنة.
رابعا – يغلب على معظم هذه
الكتابات الأسلوب الصحفي وحده في محاولة لاجتذاب القراء عن طريق حكايات بها شيء من
الطرافة أو الغرابة، مما يفقد هذه الكتابة
صفة المصداقية المفترض وجودها في مثل هذه النوعية من الدراسات، أما في مشروعنا فإننا لا يمكن إنكار الأسلوب
الصحفي الاستطلاعي ولكن في حالة ما إذا لزم الأمر كالكتابة عن مكان أو مدينة خلال
الكتابة عن شخصية أو أكثر.
خامسا – معظم هذه الكتابات يكون
محورها (ما حول) الشخصية، وبهذا لا يخرج
القارئ بمعلومة مفيدة متكاملة حول سيرة حياة هذا الشخص أو ذاك، والعكس تماما ما نجده في تأريخ السيرة الذي
نحاول أن يمضي بشكل ممنهج، ويكون جل تركيز
الكتابة حول (شخصنة) البطل بالحديث الموسع عن سيرته الإنسانية والإبداعية.
وحين شرعت في الكتابة عن شاعر
الإسكندرية العظيم (قسطنطين كافافي) لم أكن أتخيل أن الأمر سيتطور إلى أن يتخذ هذا
الشكل المنظم من الكتابة عن المبدعين، من
إلقاء الضوء على المناطق المجهولة في حيواتهم
إلى محاولات الإجابة عن الأسئلة التي يتردد حتى المثقفون في إلقائها .
ولعل أكبر سؤال يمكن أن يتبادر
إلى الذهن عند الحديث عن مبدع ما، هو الذي
يبدأ بـ (لماذا)، فلماذا يوصي البعض بحرق
أعمالهم الإبداعية بعد وفاتهم؟ ولماذا يكره البعض المرأة؟ ولماذا يذرع البعض أرض
الدنيا جيئة وذهابا؟ ولماذا صاروا مبدعين بالأساس؟
ولقد تطور الأمر إلى أن وصل إلى
ما أنا عليه الآن من تأريخ لسير الأدباء والمبدعين، بل وامتد إلى الثوار أيضا ولعل الإجابة عن
السؤال تكون هي النتيجة المنطقية للكتابة، إلا أن السؤال نفسه يكون أحيانا - بل كثيرا
- هو النتيجة.
تأريخ السيرة .. ما هو؟
وما أراه شخصيا في فن تأريخ
السيرة هو الكتابة المفصلة – قدر المستطاع – حول الشخصية وتاريخها الإنساني
وعلاقاتها بالآخرين، وكذا البيئة التي
نشأت فيها..... وهكذا، وهو ما يسمى
(بالشخصنة) أي الحديث عن شخص البطل وحياته الإنسانية التي نتشارك جميعا في عواملها
الأولية وهو الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى معرفتنا– المؤرخ والمتلقي معا –
بالأسباب التي جعلت من هذا البطل مبدعا أو ثائرا أو مختلفا بأي شكل من الأشكال،
هذا بالطبع إلى جانب الموهبة – أو المواهب
– التي منحه الخالق إياها، وهذا لا يعني أبدا
أن نهمل أعمال البطل أو إنجازاته، ولكن
على ألا يكون ذلك على حساب محور الكتابة ألا وهو سيرة البطل الإنسانية .
والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه
بعد هذا العرض هو: ما الجديد الذي يأتي به مشروع تأريخ السيرة؟
أولا – رصد وتوثيق حياة
الفاعلين و المؤثرين في حياتنا من المبدعين والثوار قبل أن تندثر ويطويها الزمان
لتصبح بذلك عملية تأريخ السيرة وثيقة مهمة يستشهد بها عند الحديث عن شخص أو جماعة.
ثانيا – إلقاء الضوء على سير المبدعين الذين نعتقد أنهم
مشهورون، ثم نكتشف أنهم ليسوا كذلك لدى
قطاع عريض من القراء وحتى المثقفين منهم.
ثالثا – التركيز على عنصر (الشخصنة)
وذكر تفاصيل حياة البطل يصل بنا إلى الإجابة عن السؤال الذي يبدأ بلماذا أو على
الأقل من أجل طرح ذلك السؤال.
رابعا – إخراج المبدعين
والثائرين في كل مكان وزمان إلى دائرة النور التي يستحوذ عليها الحكام والساسة ولاعبو
الكرة ومن هم على شاكلتهم.
خامسا – تساعد عملية (تأريخ
السيرة) في تيسير عملية التأريخ العام وذلك عن طريق تقديم مجموعات من السير
للأشخاص الفاعلين في مجتمعاتهم، مع طرح
وتحليل بعض حوادث أزمانهم، إضافة إلى
تقديم عوامل نجاحهم وتأثيرهم.
سادسا – لا تعني (الشخصنة) ذكر
تفاصيل حياتية واجتماعية لا علاقة لها بأهداف المشروع أو البحث والتي نلخصها في
(تقريب الشخصية الحقيقية والإنسانية للمبدع والتي لا يعرف القارئ عنها الكثير من
أجل الوقوف على العوامل الحياتية التي ساعدت في تشكيله إبداعيا)، وعليه فإننا لسنا بصدد الحديث عن اجتماعيات تخص
المبدع ولا تفيد القارئ.
ولكن ما هي الصفات التي يجب أن
يتحلى بها (مؤرخ السيرة)؟
1
– التزام المنهج العلمي في الكتابة.
2 –
الأمانة الشديدة في البحث والتوثيق.
3 – الصبر الشديد على جمع
المعلومات.
4 – الإلمام الكافي ببعض
المعارف والعلوم والفنون مثل التاريخ والأدب وغيرهما.
5 – التركيز على الكتابة عن
حياة المبدع وأبعادها الإنسانية مع عدم إهمال الكتابة عن منجزه الإبداعي و ظروف
عصره.
6 – الابتعاد عن العنصرية، (فمؤرخ السيرة) يرصد سير المبدعين والثوار الذين
كانت لهم مواقف إنسانية عظيمة، وذلك دون
الالتفات إلى العقيدة أو الجنسية.
7 – لا يلتفت (مؤرخ السيرة) إلى
الأشخاص ذوي الأفكار العنصرية أو التي تدعم العنصرية، أو تلك التي تساند – ولو من بعيد – أفكار مغتصبي
أرض الغير أو حقوقهم، أو التي تدعم
الصهيونية وما شابهها، ولكن يمكن (لمؤرخ
السيرة) أن يكتب عن أحد الكتاب من هؤلاء لكشف أفكاره حتى لا تنخدع بها الأجيال
التالية.
8 - الموضوعية والحياد وإنكار
الذات..
وبهذا يكرس (مؤرخ السيرة)
لكتابة إنسانية حتى يستفيد منها أكبر عدد من القراء ليجدوا القدوة والمثل في هؤلاء
المبدعين والثائرين الذين وقفوا ويقفون أمام تغييب العقول وضد الظلم والاعتداء
بكافة أشكاله في أي مكان وكل زمان.ولعل هذه تكون بداية لسجال عظيم ربما تصير
نتيجته الوصول إلى (علم تأريخ السيرة)أو (فن تأريخ السيرة) أو (أدب تأريخ
السيرة).
عن الكتاب وأبطاله
وفي هذا الكتاب أدعي أنني
اقتربت كثيرا من هذه المفاهيم، كما أدعي أيضا أنني أحييت – إن لم أكن أوجدت –
مصطلح (مؤرخ السيرة) في الثقافة المكتوبة باللغة العربية، وهنالك أسباب عديدة لهذا الادعاء، الذي أرجو أن
أكون صادقا فيه، ومنها أن هذا هو الكتاب الثاني في مشروعي البحثي حول تأريخ السيرة،
صدر الأول عام 2006 حول حياة (قسطنطين
كافافي)، والثالث يصدر قريبا حول حياة (منير مراد)، وكذلك أنني أتناول – قدر
استطاعتي وقدر ما يتاح لي من مصادر-
الحديث عن الشخصنة التي أشرنا إليها .
لقد ظلت جمل من نوع (يقبض على
جمرة الشعر)، و (كرس حياته لفنه "أو لإبداعه")، ظلت هذه الجمل، وغيرها
تثير لدي أسئلة من نوع (كيف كان يعيش هذا القابض على الجمر؟)، (من أين كان يأكل
هذا المبدع؟)، (هل "ترهبن" هذا الثائر؟) وغيرها الكثير والكثير من
الأسئلة، وكان أن بدأت بشاعر الإسكندرية "كافافـي"، وكأنه فتح صندوقا
كبيرا من النوع الذي نقرأ عنه في الأساطير القديمة، ووجدت متعة هائلة في الكشف عن
حيوات المبدعين والثائرين، في محاولة
للإقتداء بهم ولمعرفة أسباب نجاحهم، وكان لزاما علي إبلاغ الناس بما عرفت، لعل
ذلك يصير خطوة إلى الأمام في سبيل نهضة
الإنسان .
أما الدراسات والمقالات التي
يحويها هذا الكتاب فقد نشر معظمها في صحف
ومواقع إليكترونية في الفترة بين عامي 2001 و2006 والبعض لم ينشر مثل (علي بن
محمد) و( مالكولم اكس) و (سيمون بوليفار) وقد
اعتمدنا – قدر الإمكان – على مصادر موثوقة مثل الكتب وغيرها في كتابة هذه الدراسات
التي أعدت للنشر بشكل منفصل في تلك المواقع والصحف، إلا أننا قد اعتمدنا أيضا على
مواقع ذات ثقل وثقة على الانترنت مثل المواقع الخاصة بالشخصيات والمواقع الأخرى
العلمية والتاريخية ذات السمعة الثقة المعلوماتية، متعمدين الابتعاد عن المنتديات والمقالات
المنقولة والمواقع الصغيرة أو الخفيفة للتأكيد على أهمية التدقيق في البحث العلمي
والسعي الدءوب وراء المعلومة الصحيحة، وذلك في الدراسات التالية: (مالكولم اكس) و
(آرثر ميللر) و(فيروز).
وعندما أعدت قراءة هذه الدراسات مؤخرا لصياغة
الكتاب في صورته النهائية اكتشفت أن هناك العديد من العوامل المشتركة التي
تجمع بين هؤلاء الأبطال منها:
أولا - أن الأم كانت تقف كمؤثر أول وقوي يدفع معظم
أبطال هذا الكتاب إلى البدء في المنجز الإنساني سواء أكان إبداعيا أم ثوريا، عدا (كافكا)
الذي لم تشمله أمه بحبها وحرمته من العطف والحنان، ولعل هذا ما يفسره البعض بأنه
أحد أسباب تكوينه الإبداعي الذي نحى نحو الكابوسية.
ثانيا - كما يلاحظ أن هناك من
مات في نفس تاريخ مولده، كما حدث مع كل من (كافافي) و (كافكا) اللذين اشتركا أيضا
في ترك وصية بحرق كل إنتاجيهما.
ثالثا - كما تميز معظم أبطالنا بتوتر العلاقة مع المرأة،
حتى إن بعضهم لم يتزوج نهائيا، و الآخر لم يهنأ بحبه، بينما تزوج الثالث بأكثر من
زوجتين، بشكل متتالٍ بالطبع !!!!!!
رابعا - كان لمعاينة الحروب والاستعمار
والمعاناة الإنسانية كالمرض والفقر والقهر، المردود الإيجابي لدى الكثير من
أبطالنا، مثل (جيفارا) من ناحية ، و(فيروز)
من ناحية أخرى، وليس هذا مستغربا، فعندما سئلت في أحد البرامج الإذاعية حول هذا
العدد غير المتجانس من الأبطال بين دفتي كتاب واحد قلت إن الإبداع ثورة، كما أن
الثورة إبداع، ولكل من المبدع و الثائر مواقفه التي لا ينساها التاريخ أبدا، فقد
ظلت السيدة (فيروز) – على سبيل المثال العظيم – في بيتها بلبنان في كل أوقات
وأنواع الحروب التي تعرضت لها بلادها، فهي متسقة بشدة مع ذاتها، كما يجدر بنا أن
نذكر الوقوف القوي ضد الهيمنة والاستعمار بكافة أشكاله – أشكال الوقوف، وأشكال
الهيمنة – حتى من داخل الدولة التي لا تنفك تمارس هذا الفعل على مدار تاريخها، إن
كان لها تاريخ ألا وهي الولايات المتحدة، حيث يظهر هذا الأمر جليا في نموذج الكاتب
المسرحي الأمريكي (العاق) (آرثر ميللر).
خامسا - الترحال، والتنقل
والسفر المستمر، والبحث الدءوب عن القيم الإنسانية بشكل عام كالحرية، سمات مشتركة أيضا جمعت بين ثوار هذا
الكتاب ومبدعيه، حتى إننا نكاد لا نجد
واحدا منهم قد استمر لفترة طويلة في مكان واحد، بل إن البعض كان يسافر عبر التاريخ
والخيال بكتاباته عن حضارات وبلاد بعضها قائم، وبعضها التهمته ماكينة الزمان
العملاقة.
إن هذا الكتاب تحية تقدير بسيطة أقدمها لكل
أبطاله، كما أرجو أن يكون إضافة إلى مشروع كبير يهتم بمن تركوا علامة حقيقية في
سبيل تقدم تاريخنا الإنساني بشكل عام دون
الالتفات إلى المعتقد أو الموطن أو اللون.
(من كتابي: "مبدعون وثوار" - 2013)
(من كتابي: "مبدعون وثوار" - 2013)
تعليقات بلوجر
تعليقات فيس بوك