إن أي شاعر لا يمكن أن ينفصل بحال عن عنصر الزمان، سواء
كان هذا الزمان آنيا، وفي هذه الحالة نسمي علاقته بالزمن في قصائده تعبيرا عن
العصر، أو سالفا، وهو ما يدعى بالوعي التاريخي، إذ أن الشاعر ضمير أمته، وهو
بالتالي ممتزج بزمانيها السالف والآني، بل إنه مطالب في آراء الكثيرين بأن يستقرئ
المستقبل أيضا.
شاعرنا صلاح جاهين وهو أحد رواد العامية المصرية أنشأ
علاقة كبيرة بين ذاته المفردة الشاعرة وبين الزمن الواحد الممتد منذ الأزل المجهول
وإلى الآن وربما يحمل في قصائده رؤى للمستقبل المجهول أيضا، وذلك في قصائد عديدة
سنتناول منها خمس نصوص فقط من أشعاره لوضوح دلالة فكرة الزمن فيها أكثر من غيرها مستثنين
التجربتين الضخمتين "على إسم مصر" ، والرباعيات، على الرغم من بروز عنصر
الزمان في هاتين التجربتين وذلك لتقديرنا احتياجهما إلى عمل ضخم في هذا المبحث.
وهذه القصائد هي : بكرة أجمل، ميلاد، سوناتا 2 ، صديق
عمري، لكن ترى كيف صور شاعرنا الزمان في نصوصه هذه؟
الزمان / الإنسان / الآخر
لقد جاء الزمان دائما باسمه هكذا "الزمان"
وكأنه اسم لشخص يعرفه جيدا ويخبرنا عنه
يا زمن آه يا زمان
ياللي طابع رسم كفك عالحيطان
خمسة وخميسة في عين ألعن شيطان
أنا شفتك وانت ماشي في الغيطان. "بكرة أجمل ص
14"
وصفات هذا الشخص تتمثل في الحركة الدائمة، فهو – كما
قرأنا – ماشي، كما أنه يفوت – يمر بمنتهى الخبث دون أن ندري، كما تدل كلمة
"تسحب" في قوله :
والزمن فات فات سنين
السنة تسحب سنة. "بكرة أجمل ص 13"
ولم يصور "جاهين" الزمان متوقفا إلا مرة واحدة
في هذه النصوص، عندما كان هو والبلد كلها : العيال / البنات / الغيطان / زباين
القهوة ... في نفس الحال .. حال التوقف
والزمن واقف شوية
جنب ساعة البلدية. "بكرة أجمل ص 13"
ورغم ذلك فإن الزمان لا يستطيع الاستمرار في وقوفه، فهو
يرغب في السير، لأنه "إنسان" إيجابي متحرك ولا يركن، وهنا نجد الإشارة
الواضحة إلى أن الزمان في قصائده إنسان، ليس هذا وحسب، لكن الشاعر يراه
"آخر" ويتعامل معه ومع كل أفعاله "الإنسانية" :
والزمن عايز يسير
وانا عايزه ينتظر وباصبره
لما اقوله شيء كتير. "بكرة أجمل ص 14"
الشاعر والزمان علاقة لا نهائية
هذا هو الزمان الإنسان، لكن هل تتوقف العلاقة عند هذه
الحالة؟ بالطبع لا فإن "جاهين" رصد علاقة الذات ببعديها "الأنا /
النحن" بالزمان / الآخر، من خلال مرحلتين:
الأولى – التسابق :
وهو أمر يستلزم مكانا وزمانا وعنصرين للتسابق، هما الذات
والزمان/ الإنسان في هذه القصائد، وهو ما يجعلنا نرصد "الزمكانية" التي
كان شاعرنا ن أوائل المبدعين الذين أثروا هذه الفكرة، فيتضح لنا هذا جليا في قوله
:
والزمن فات فات سنين
السنة تسحب سنة
لما حصلني أنا
وانا قاعد على كرسي خرزان
على قهوة في الميدان
وبافكر في الحياة من حواليا
والزمن واقف شوية جنب ساعة البلدية. "بكرة أجمل ص
13"
كذلك في قوله :
والزمن فات فات سنين
في خيالي
وانا قاعد، والميدان مليان قبالي. "بكرة أجمل ص
17"
الثانية : الرغبة في الخلود
في هذه القصائد مرت الذات/ الأنا تحديدا بمراحلها
الإنسانية المتعددة بدءا بالطفولة وحتى الهِرَم متصفة بصفة واحدة هي الشيب النفسي
غالبا، والزماني أحيانا:
يا هل ترى الطفل اللي نايم يبتسم
من خلف جدران في العدد تلاتين سنة
هو الحزين .. هو البدين الملتحم
هو أنا يا رب ولا مش أنا؟ "ميلاد ص 32"
هذا الشيب ليس دلالة ضعف شخصي وإنما هو معبر عن رغبة في
الخلود نابعة من خلود الحضارة التي يحملها على كتفيه، أليس شاعرا واعيا بالتاريخ
كما ذكرنا؟ أليس معبرا عن هم الذات الجمعية "النحن" بالتوازي مع هم
الذات الشاعرة المفردة/ الأنا؟
إذن لنقرأ ما يدل على رغبة الخلود هذه:
عشرين سنة
عمري أنا
أنا العجوز الشايب الحزين
أنا العجوز من قبل سن الأربعين
عمري النهاردة
رغم المرار ده
في عمر وردة
عشرين سنة. "صديق عمري ص 124"
لكن على الرغم من هذه الرغبة الواضحة في الخلود، إلا
أننا نجد الذات / الأنا وقد بدت عاجزة راكنة، ويتضح هذا أولا في سباقها مع الزمان،
لكنها كانت في الحقيقة حكيمة متريثة استمدادا من تاريخها العام:
والزمن عايز يسير
وانا عايزه ينتظر وباصبّره . "بكرة أجمل من
النهاردة ص 14"
إن الفعل هنا يدل على الرغبة والرجاء فقط، لكن هذه الذات
لم تكن سلبية عاجزة كما يبدو لنا، فإننا إذا ما قرأنا السطرين السابقين كنتيجة
للمقطع كله، نلاحظ أن الذات هنا مهمومة بتوقف الحال في عموم البلاد كما ذكرنا
آنفا، فهي مشغولة بالناس وبالزمان في آن واحد، وقد دخلت – ضمن عموم الخلق في كل
البلاد – في سباق مع الزمان، وهي هنا حكيمة لا سلبية.
أما المرحلة الثانية في العلاقة بين الذات والزمان وهي
الامتزاج التام رغبة في الخلود، وهو أمر نابع من إحساس الذات بتاريخها العميق
الضارب في القِدم:
بعدت ولادتي في الزمن تلاتين سنة
صبحت تاريخ زي السيوف والسقايين
زي الشراكسة والشموع والسلطنة
زي الخيول ضاعت سنيني في السنين "ميلاد ص 31"
لكننا لا نرى الشاعر يعبر عن الذات الجمعية في علاقتها
الزمان في تلك النصوص إلا مرة واحدة في قوله :
دار الزمان فاتت كمان سنة
ولا اللي فايتين احنا ع السنين
فتنا عليك يا كوبري أمسنا
ونفسنا في حاجات وسرحانين . "سوناتا 2 ص 31"
إذن فقد طرح "جاهين" علاقة متفردة بالزمان، من
خلال تلك النصوص، هذه العلاقة التي ربما تكتمل ملامحها إذا تطرقنا أو تطرق باحثون
آخرون إلى رباعياته الشهيرة، والتي ذكرنا أنها منطقة مهمة في إبداعاته، تحمل
فلسفته ورؤيته للحياة، هذا إلى جانب القصيدة الكويلة التي لم تكتمل للأسف، ألا وهي
على اسم مصر، والتي أرى أنها تحتاج دراسات ودراسات.
رجعنا إلى :
- من أشعار العامية المصرية – صلاح جاهين– مركز الأهرام
للترجمة والنشر 1993 – ط 2
تعليقات بلوجر
تعليقات فيس بوك