
كان موظفا حكوميا مثاليا، عمل طيلة سنوات حياته المهنية
في بنك التنمية والائتمان الزراعي، الذي كان يسمى قديما – وظل كذلك حتى بعد تغيير
الاسم – بنك التسليف، تدرج حتى وصل إلى مدير عام في أخريات سنوات عمله، وهو الذي لم
يكن حاصلا سوى على مؤهل تجاري متوسط، بكفاح وعرق ودموع حقيقية، كلها حقيقية
كما أكد بنفسه وأكد أقارب عديدون.
إنه أبي "جلال محمد الدويك"، الذي لم يكن
يعترف بي شاعرا، حتى بعد أن أصدرت في حياته ثلاث دواوين وكتابا بحثيا هو
"كافافي .. الشاعر والمدينة"، وكان ذلك يوغر صدري بشدة، لكنها كانت
طريقته – كما أخبرني أحد أقاربي الذين تحدث إليهم – في تحفيزي ودفعي إلى الإمام.
كانت قصائدي النثرية بالنسبة له كما كان يرى دوما
"شعرا منثورا أو نثرا مشعورا" أيهما أقرب إلى التصور، لكنه ويا للعجب
كان يقرأ وبدقة تلك القصائد التي احتوتها دواويني، ومنها بالطبع ديواني الأول
"يرجع العاديون مكبلين بالياسمين" – 1999 حيث كتبت في إحدى قصائده التي كانت بعنوان
"هذا ما فعلته البنت الجميلة بألوان الزجاج" - 1994:
كان "جلال" يخبئ رغبة ما
عاد أبي ذات يوم
من عمله المرهق في البنك، وقد تجهم وجهه حين ناداني متسائلا عما أقصده من هذا
المقطع، مستغربا وبشدة كوني ذاكرا اسمه في أشعاري، لأول مرة بهذه الطريقة المريبة
من وجهة نظره، فقد أزعجته كلمة "رغبة" على ما يبدو، وهو المتحفظ في كل
أحواله وأقواله.
وربما كان أبي محقا في انزعاجه فالمقطع يأتي ضمن قصيدة
شبهت فيها أكبر أخوالي الذي كان فظا معي بالفعل بأن رأسه :
أقرب إلى الضفدع أو إلى الديك .. لا أتذكر
فبعض القصائد على ما يبدو – أو ربما أكثرها – تحمل في طياتها جزءا ضخما من
الحياة اليومية التي يعيشها الشاعر، خاصة من يكتب قصيدة النثر، فالقصيدة لم تعد
خيالا كلها، ولا واقعا مجردا جافا.
فشرحت له الأمر، أن "جلالا" الذي كتبت عنه هو
صديقي الذي تسمى على اسم الإذاعي الشهير "جلال معوض"، والذي كنت تحبه
بشدة يا أبي لأن اسمه (على اسمك)، وقد كان متأنقا يعشق لبس "الجاكيت"،
وكنت أتخيل أن به جيبا مخصصا لرغبة مجهولة، وقد سعد صديقي الذي صرت أراه الآن صدفة
رغم أننا نقطن الشارع ذاته، سعد بشدة بهذا المقطع، وانزعج أبي الذي يبدو أنه لم
يصدق تماما ما أقول.. وظل هذا الأمر بيننا لسنوات يروح ويجئ، مثلما كان تعريفه
لأشعاري يقفز ويختبئ من آن لآخر.
أبي ذلك العظيم الذي كان الخلاف بيننا واسعا في تناول
الحياة ورؤيتها، كان فنانا حقيقيا، رساما عظيما، أقام معرضا في "مندرته"
الخاصة بدار العائلة الكبيرة، أيام كانت هناك عائلة وكان هناك جرامافون ورسم وصفاء
بال.
أقام معرضه كما حكى لي وقد اشترى لجمهوره من الأصدقاء –
الشباب آنذاك – والأهل أيضا، "الفندام" الذي وضع داخل كل قطعة منه رقما
للوحة من لوحات المعرض، وهكذا باع لوحاته بسعر مناسب للجميع مطعما بقطع الحلوى
الصغيرة.
أبي الذي أذكره الآن دون سبب واضح، لا لذكرى ولا لفخر
ولا حتى لدفاع، لكنني أذكره وأذكره، وهو الشاعر الرقيق الذي كتب قصائده الغزلية
البسيطة لأمي – رحمهما الله – في هيئة "جوابات" رقيقة معطرة تشبه ما نراه
في أفلام الأبيض والأسود.
ولم لا؟ وهما من
أبناء الأربعينيات والخمسينيات، وقد احتفظت بكل هذه "النصوص/الخطابات"
لأرجع إليها كل فترة، أشم فيها رائحة الماضي الذي لم أعشه وأصرخ في أبي: لم تركت
كل هذا الثراء، وعملت موظفا حكوميا؟ لكنني أنتبه بعدها بلحظة لمدى عظمة تضحياته،
فلولا إنكاره لذاته وفنائه الحقيقي في العمل، والجري المستمر وراء لقمة العيش، لما
كنا اليوم أنا وإخوتي نجلس وراء هذه الشاشات لننقر هذه الأزرار ونحن نجر الحكمة
وراء الأخرى في مقال أو مقولة.
رحمك الله يا أبي لم أكن أقصد ما جال بخاطرك والله، ولم
أكن أعرف قيمتك وقيمة ما تصنع ...
تعليقات بلوجر
تعليقات فيس بوك